ماجدة الرومي … ليلة أطل القمر وشعشع الأرض

نقلاً عن موقع أضواء المدينة / لبنان
كتب جمال فياض
ذات يوم، اتّصل بي عوض حليم الرومي، يخبرني بفرح طفل وجد ضالّته من ألعابه الغالية، ليخبرني أنه وجد كنزًا كبيرًا!
كنز كبير؟ أين؟ وكيف؟ ومتى؟ وما هو هذا الكنز؟ ولماذا هو كبير؟
يتابع: يا جمال… وجدت بطاقة دعوة لحفل زفاف والدي حليم الرومي ووالدتي ماري، ويعود تاريخها إلى العام ١٩٤٩ في كنيسة بور سعيد في مصر!
طبعًا فرحت لفرحه، وقلت له: مبارك ما وجدت، ومبارك ما أنجب حليم وماري من ذرّية صالحة، فيها ولد يدعو لهما، ويبحبش في خزائنهما عن الأثر الطيب، وكل ما تركاه. مبروك عزيزي عوض، تصبح على خير!
لكن عوض لا يكتفي، فيقول: يا جمال، على بطاقة الدعوة نوتة موسيقية مكتوبة، ويبدو أنها موسيقى ولحن، وليست مجرد نوتات مبعثرة لتزيين البطاقة… في الأفق اكتشاف موسيقي لا بدّ أن نبحث عنه…
الموضوع جدّي جدًا… إذا صحّت توقّعات هذا الوريث الوفي، فهناك فعلًا كنز فني، من بين مئات الأعمال التي تركها الموسيقار حليم الرومي نوتات على الورق، محفوظة في صناديق، ولم ينفّذها، لأنها كانت غزيرة جدًا…
يحمل عوض النوتة في اليوم التالي إلى المايسترو الكبير أندريه الحاج، ويقرأها معه، ثم يعزفها ويسجّلها، فإذا هي تحفة فنية موسيقية جميلة جدًا، كتبها حليم الرومي، ويبدو أنها من تركيبتها اللحنية الانسيابية توحي بدخول العروسين إلى الكنيسة لحفل زفافهما…
حتى هنا، حكيتُ لكم الذي حصل. لكن الجميل والمبهر، أن هذه الموسيقى الرائعة الساحرة البديعة، التي عزفتها الفرقة الموسيقية في حفلة الثامن من تموز (يوليو) ٢٠٢٥، التي كانت ليلة افتتاح حفلات مهرجان “أعياد بيروت”، كانت هي الموسيقى الكنز، التي خرجت من قمقم بطاقة الدعوة بعد ٧٥ عامًا بالتمام والكمال، لتُعلن عن قيامة موسيقى الفرح والزفاف من بين ملفات الزمن وغبار النسيان.
بطل من أبطال الإدارة الفنية هو عوض الرومي، رجل المعجزات والصعوبات … بل المستحيلات..
تعالوا أحكي لكم الآن عن هذا الحفل التاريخي…
في ليلة من ليالي العمر الفنية اللبنانية، وبعد خمسة عشر عامًا من آخر حفلة أحيتها الماجدة في مدينة الزمان “ست الدنيا”، تقف هذه أمام جمهور من خمسة آلاف محبّ، ولو اتّسع المكان لأضعاف هذا العدد، لما تأخّر عنها أحد…
بحضور رسمي رفيع، تقدّمته السيدة الأولى نعمت عون، وبحضور رئيس مجلس الوزراء نواف سلام، ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي، ووزير الإعلام الدكتور پول مرقص، وحشد من الشخصيات الرسمية، أطلت السيدة ماجدة الرومي، لتلقي التحيّة على بيروت من خلال الحاضرين، مذكّرة بكلمات من ذهب أن لبنان كان وما زال وسيبقى عصيًّا على الموت والدمار والانكسار، وأن العدو المتربّص بنا، وبكل وطننا العربي، لن ينال منّا، ولا من وطننا، ولا وحدتنا… متفائلة بالعهد الجديد، وحكمة القيادة التي ستكون رُبّان السفينة الواصلة إلى برّ الأمان.
كانت كلمة السيدة الحرّة درسًا للذين شكّكوا في نزاهة وطنيّتها وعروبتها. وهي تعمّدت الدخول في التفاصيل، ربما ليعرف من لم يعرف بعد، أنها تعادي من يعادي لبنان وبلادنا العربية، ولا تتنازل عن مواقفها مهما كانت المتغيّرات، فهي لم تكن يومًا إلّا ابنة حليم الرومي العربي اللبناني، وما بدّلت تبديلا…
في مكان آخر، وقفت قليلًا مع الذات، ومع زملاء وأصدقاء مشوارها الفني الطويل، فشكرت الإعلاميين والصحفيين والنقّاد الذين كانوا دائمًا داعمًا متينًا لها، والنقّاد الذين انتقدوا أعمالها بمحبة للتقويم، والذين شتموها دون سبب… لأنها منهم ازدادت إصرارًا على الاستمرار، وسامحت وابتسمت وتابعت…
أما وقد طال الكلام، والشرح والتفاصيل، فلنحكي “علّلي جرى” في تلك السهرة المهرجانية التي لن تكون حدثًا فنيًّا عابرًا، بل محطة تاريخية جميلة من محطات بيروت الفنية والسياحية والجمالية…
الفرقة الموسيقية، بقيادة المايسترو لبنان بعلبكي، صاحب اللمسات الذهبية في توزيع تلك المقدّمة الموسيقية البديعة، يقود الفرقة بأُستذةٍ صارت ثابتة، لا مجال للحديث عنها، سوى وصفها بأنها على مستوى الفرق السيمفونية العالمية. لم يعد لبنان مجرّد قائد أوركسترا مع مطربة من العيار الكبير، بل كبير يقف لقيادة فرقة كبيرة، مع فنانة كبيرة جدًا… وهنا تكتمل مواصفات النجاح الكبير!
يا إلهي على سحر ماجدة، وجمال ماجدة، وحضور ماجدة…
تطلّ بفستان بلونين فقط، أسود وأبيض… ولهذا رمزية واضحة جدًا. “أنا واضحة، ولا لُبس في كل ما أقول: يا أبيض يا أسود”… ومواقفها، بعد اللغط المفتعل مؤخرًا، يجب أن تكون واضحة وضوح الأبيض والأسود… وهكذا كان، فليبحث الصيّادون عن صيدٍ آخر!
تغنّي السيدة، ومن أول أغنية ندخل في الانسجام، وتشتعل الساحة الكبرى، وتبدأ السهرة مع الأغنية التي تُصرّ ماجدة على الدخول بها، ربما تعتبرها أيقونة التفاؤل: “ميلي يا حلوة ميلي”… ثم تبدأ بإعادتنا إلى زمنها الجميل، فتغني لنا ونغنّي معها ولها “عيناكِ ليالٍ صيفية”، التي كتبها الراحل أنور سلمان ولحّنها الراحل جمال سلامة، ثم تنتقل إلى لحن حليم الرومي الخالد “اسمع قلبي وشوف دقاته”، وتُحرّض الحاضرين على الرقص، ثم اللحن الخالد الآخر لنور الملاح “عم يسألوني عليك الناس”…
ثم تفاجيءالجميع الحاضرين بقفشة غير منتظرة، فتنطلق فجأة ودون تحضير فتغني “بترحلك مشوار” الأغنية التي سجلها وديع الصافي كمحطة مميزة في مشواره، ومن ألحان جار الرضا في كفرشيما الراحل فيلمون وهبي، وكلمات الخفبف الظل الراحل عبد الجليل وهبي… وينفعل الجمهور فتتحول اللحظة الى أهزوجة ولا أحلى ولا أجمل …
وهل يمكن أن تمرّ مثل هذه الليلة الساحرة دون قصيدتي سعاد الصباح “كن صديقي” مع عبده منذر، و”لا تسأل ما هي أخباري” مع مروان خوري؟
وتتناغم وتتماهى النغمات بينها وبين الجمهور، حتى يَجنّ المسرح بمن فيه وبالجمهور الجالس أمامه، مع أغنية الراحل إحسان المنذر التاريخية “مطرحك بقلبي”… وعندما تصل قصيدة نزار قباني، بل أيقونة قصائد نزار، وألحان إحسان، وأغاني ماجدة “كلمات”، ستكتشف أنها صارت ضمن الروح والخفقات والمشاعر… قصيدة لن يُكرّرها الزمن… هي أقرب ما كتب نزار، وأجمل ما لحّن المنذر…
الطريف أن مطالبات الجمهور بها بدأت منذ الأغنية الأولى… وفي هذه السهرة، يكسب إحسان، وهو في مكان آخر، لكن روحه كانت هنا، وجمال سلامة يحقّق نصرًا آخر كما كل مرة، فقد كانت قصيدة “ست الدنيا” جوهرة لمعت في الختام، فجنّنت الحاضرين، وأبكتهم، وأسعدتهم، و”شقلبت كيانهم”… لتبدأ، قبل المقطع الأخير، الأسهم النارية بالانطلاق، لتضيء وتنير وتشعشع سماء واجهة بيروت البحرية…
غنّت الماجدة بفرح كبير، وكانت ملامح البهجة واضحة في كل لحظة… كيف لا، وهي تعود لتحضن جمهورها في بيروت بعد خمسة عشر عامًا من البُعد الاضطراري؟
هذه سهرة ستُسجّل للتاريخ… للذكرى، لبيروت وأهلها، وكل الذين حضروا…
سيضحكون غدًا، وبعد غد، وبعد عام، وبعد جيل، أننا في يوم من أيام الزمن الرمادي، حضرنا حفلاً لماجدة الرومي، فغنّت كل جمالاتها الغنائية، وفصلت الأسود عن الأبيض، ومسحت الرمادي من قاموسها… فقبّلت العلم اللبناني، العربي، الحرّ، المحمي بالأرواح ودماء الشهداء من كل جهة كانوا…
اختلف اللبنانيون على أمور كثيرة، وهذه الليلة اتّفقوا على حبّ ماجدة الرومي…
وهي نعمة من نِعَم الخالق… أن تجد كل هذا الحب، في مكان واحد، على أرض بيروت، وعلى شاطئها الشاهد على تواريخ لا حدود لها!!